أي أوروبا في 2054؟

  • 2024-06-04 22:10:26

أيام قليلة وحاسمة فقط تفصلنا عن موعد انتخابات البرلمان الأوروبيّ المرتقبة والمزمع عقدها ما بين 6 و9 من الشهر الجاري في بقاع 27 دولة أوروبية. نظريًا هي انتخابات أساسية ومهمة تُنظم كل 5 سنوات مرة، وترسم نتائجها الخطوط العريضة للتوجهات والتغيرات السياسية في القارة العجوز. أما عمليًا فيمكننا القول إنّ انتخابات هذا العام هي بالفعل واحدة من المحطات المهمة والمحورية في تاريخ أوروبا الحديث، ويتوقع لها أن تكون من أكثر الانتخابات صخبًا وترقبًا، خصوصًا في ظل التقدم الملحوظ لأحزاب أقصى اليمين في العديد من استطلاعات الرأي الأخيرة.

ملف الهجرة يقلق أوروبا

حرارة الحملات الانتخابية لهذا العام كانت لافتة وغير مسبوقة بأرجاء أوروبا كافة، وقد بلغت درجاتها القصوى في الأيام الماضية، أما وقودها الأساسيّ فكان ولا يزال ملف الهجرة من دون منازع. فهذا الملف وبسبب السياسات الفاشلة على مدى الأعوام العديدة الماضية أصبح وللأسف واقعًا ملموسًا في الشارع الأوروبي، حيث أبدى الكثيرون تخوفاتهم من تداعيات الهجرة الكثيرة ومن تأثيرها بطريقة أو بأخرى على ملفات حساسة كالأمن والتعليم والقدرة الشرائية والصحة وغيرها العديد من الملفات. لكن يبقى الهاجس الأكبر لدى الكثيرين من أن يؤثر هذا التخبط في إدارة ملف الهجرة على مستقبل الهوية الأوروبية.        

فبعيدًا عن وهم نظرية "الاستبدال الكبير" التي تروّج لها بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة هناك خوف حقيقيّ عميق لا يمكن إغفاله عند شريحة كبيرة من المواطنين الأوروبيّين على مستقبل الهوية الأوروبية. وذلك يعود إلى أنّ العواصم الأوروبية المتخمة بكل أنواع المهاجرين أكانوا شرعيّين أو غير شرعيّين تبدو عاجزة حتى هذه اللحظة عن التعامل بطريقة عملية وفاعلة ومنطقية مع هذا الملف. فهناك فشل تام في إدارة عملية التصدي لتدفق المهاجرين غير الشرعيّين، وهناك أيضًا فشل أكبر في التعامل مع أعداد هائلة من المهاجرين غير الشرعيّين نجحت في الوصول إلى الأراضي الأوروبية. أما الأهم فيبقى الفشل الذريع في سياسات الدمج وبالتالي الفشل في احتواء أعداد كبيرة من المهاجرين الذين أصبحوا قانونيًا جزءًا لا يتجزأ من النسيج الأوروبي.  

المشكلة اليوم أنّ هناك استسلامًا كبيرًا ومقلقًا داخل الأروقة الأوروبية والأحزاب التقليدية إزاء هذا الواقع، بالإضافة إلى الغياب التام لأيّ رؤية واضحة للتعامل مع هذا الملف. والأفظع أنّ هناك نكرانًا غريبًا لنواة مشكلة الهجرة الأساسية. فمشكلة الهجرة اليوم هي ليست مشكلة أحادية عادية وهامشية، بل هي مشكلة ثلاثية الأبعاد بالغة التعقيد ووجودية. وبالتالي حلها يجب أن يكون واقعيًا وجريئًا وبعيدًا كل البعد عن أنصاف الحلول، والأهم أن يعالج بشكل ذكيّ جوانب هذه الآفة كافة.

 فتح الحدود الأوروبية  أمام العمال

وعليه يجب على أوروبا في المستوى الأول أن تحلّ مشكلة تدفق الأعداد الكبيرة من المهاجرين عبر خطوات شجاعة ومسؤولة، تتمثل أولًا وأخيرًا بفتح الحدود الأوروبية أمام الراغبين في العمل، خصوصًا أنّ سوقها بحاجة ماسة إلى الكثير من اليد العاملة. أما على المستوى الثاني فيجب على المؤسسات الأوروبية أن تحل مشكلة المهاجرين الموجودين على أراضيها بشكل غير شرعيّ، عبر خطوة جريئة تتمثل بتسوية أوضاعهم أولًا، والقيام ثانيًا بتعديلات جذرية تطال نظام التقديمات الاجتماعية المقدمة لغير الأوروبيّين، والأهم أن تطال أيضًا قانون الحصول على الجنسية. وفي المستوى الثالث والأخير يجب أن تعمل الحكومات الأوروبية من دون كلل وملل على القيام بكل ما يلزم من أجل دمج مواطنيها الجدد في مجتمعاتها، ومحاولة صبغهم بهويتها وهي الخطوة الأصعب والأدق برأيي.    

يقول الكاتب والروائيّ الفرنسيّ اللبنانيّ أمين معلوف في كتابه "هويات قاتلة"، إنّ "الهوية لا تُعطى مرة واحدة وإلى الأبد، بل تُبنى وتتحول على مدار الحياة"، وهذا بالظبط ما تحتاجه أوروبا اليوم. فمن غير المنطقيّ للدول الأوروبية أن تستمر في السماح للملايين من المهاجرين بالحصول على جنسيتها فقط، من دون الحصول على هويتها أيضًا. فأيّ مستقبل للدول الأوروبية بوجود نسبة كبيرة من مواطنيها لا تريد هويتها؟ فأوروبا اليوم بحاجة ماسة إلى مواطنين حقيقيّين ينتمون إليها، ويؤمنون بقيَمها ويقدرون تاريخها ويفخرون بهويتها، وهي بالتأكيد في غنًى عن أشخاص يريدون الحصول على جنسيتها فقط.

لنكن صريحين هذا هو الواقع الأوروبيّ اليوم، وهذا ما تفكر فيه شريحة كبيرة من الأوروبيّين، والأهم أنّ هذا ما سيحدد خيارات الملايين في صناديق الاقتراع في الأيام المقبلة. ففوضى مشاكل الهجرة المتعددة التي أصبحت على ما يبدو خارج السيطرة، أججت وبشكل دراماتيكيّ مخاوف وهواجس الملايين من المواطنين الأوروبيّين حول مستقبلهم وهويتهم. حتى أنّ البعض بدأ يتساءل كيف ستكون ملامح أوروبا بعد 30 سنة من اليوم، وذلك في حال استمرار الأمور على وضعها الحاليّ؟ وأيّ هوية أوروبية في 2054؟

الهجرة والهوية العنوان الأبرزلإنتخابات 2024

الأكيد أنّ ملامح أوروبا ستكون مختلفة تمامًا عن التي نعرفها اليوم، وذلك في حال الاستمرار في سياسات الهجرة الحالية نفسها. فبعد ثلاثين عامًا من اليوم، سيكون قد دخل أوروبا جيلان جديدان من المهاجرين، جيل دخل في الفترة الحالية، وجيل آخر وُلد هنا، وبالتالي يُتوقع أن تتخطى نسبة المواطنين من المهاجرين وأبناء المهاجرين الـ25% من الدول الأوروبية الرئيسية. وعليه فإنّ ازدياد أعداد المهاجرين من دون سياسات جدية، خصوصًا في ما يخص الدمج والاحتواء، فهذا يعني المزيد من المشاكل والتعقيد، والمزيد من الشرخ الكبير على صعيد الثقافة والهوية، ولكم أن تتخيلوا معي ملامح أوروبا حينها!

اليوم الهجرة والهوية هما العنوان الأبرز لانتخابات 2024 وهناك وعود انتخابية كثيرة في هذا الإطار، فهل ستكون الأحزاب السياسية الفائزة في هذه الانتخابات قادرة على الوفاء بوعودها واعتماد مقاربات جديدة قادرة على حلّ آفة الهجرة في أوروبا، والمحافظة على الهوية الأوروبية التاريخية؟ أم سيبقى الوضع على حاله وتُرتكب الأخطاء نفسها مجددًا، ويذهب الناخبون من جديد إلى صناديق الاقتراع في الأعوام الثلاثين القادمة، بحثًا عن حل لملف الهجرة، ودفاعًا عن هويتهم المفقودة؟

متعلقات